- أمضينا يومين في حركة دائمة مجتازين مناطق طبيعية وعرة نجرجر أكياس نوم وملابس وأطعمة أودعناها حقائب الظهر التي تزن نحو 15 كيلوغراما. صعدنا وهبطنا مسالك غير ممهدة ومسارات صخرية خلال الساعات السبع الأخيرة. بدأت الظلمة تخيم من حولنا قبل أن ننهي مسارنا. وكانت عشرات الشلالات تسري كالأوردة في الجبال المحيطة بنا من كل جانب. واستمر الرذاذ في اختراق ملابسنا خلال الساعة الأخيرة من صعودنا.
- عندما بلغنا الاستراحة الليلية قصف الرعد شاطرا الوادي من خلفنا إلى قسمين. التفتنا فرأينا الصخور والجلاميد ترتعد تحت زوبعة غبار هبت في ناحية الجبل. إنها باكورة انهيارات صخرية سنسمع منها الكثير، ومن شأنها أن تشعرنا بقشعريرة طفيفة عندما نتخيل مدى قربها منا. لا يجوز التوقف عند سماع هدير انهيار صخري أثناء سيرك في جزء من المسار أشير إليه بعبارة خطر: خطر سقوط الصخور. ممنوع التوقف. بل عليك أن تفر راكضا.
- لكن حسن حظنا قيض لنا أن يكون أكثر الوقت الذي قضيناه في اجتياز مسار ميلفورد، البالغ طوله 33.5 ميلا، والذي يستغرق عبوره سيرا على الأقدام 4 أيام في جزيرة نيوزلندا الجنوبية، حافلا بالتعجب والدهشة أكثر من القلق مما يحيط بنا. لكن هذا المسار يتطلب أيضا تحضيرا وصبرا وأدوية لعلاج العضلات المتعبة. إن اجتياز مسار ميلفورد أشبه بمشي فرودو المتثاقل في سلسلة أفلام ملك الخواتم التي صورت كلها في نيوزلندا، إلى جانب فيلمين قادمين عن القزم هوبيت.
- يمضي جزء من المسار عبر مروج جذابة عذراء؛ ويمر جزء آخر عبر غابة زان كثيفة تكسوها الطحالب؛ ثم يأتي جزء ثالث ممتد فوق أرض صخرية صاعدة تمتحن همتك على المتابعة قدما، لكنها تهبك مناظر بانورامية تسبب الدوار.
إحساس بالقنوط والإعياء، وإحساس بضخامة الإنجاز، وجمال يأسر القلوب، هذا كله فضلا عن إحساس بالتفوق والامتياز. إنه مكان رقيق غير متسامح أحيانا، ولا يفتح أبوابه أمام أكثر من 100 شخص يوميا. 40 مكانا للمبيت، يبلغ أجر الواحد منها 300 دولار أمريكي في اليوم الواحد توفرها دائرة البيئة: www.doc.govt.nz
- ويجب أن يتم الحجز قبل 6 أشهر. وقد أنفق 50 شخصا آخرين ما يتراوح بين 1.000 و3.000 دولار لقاء أماكن نوم خاصة، ولقاء حمل حقائبهم، وتناولهم وجبات قدمتها الشركة السياحية الخاصة أولتيميت هايكس.
- لا تختلف تجربة ميلفورد كثيرا عن قديم حالها عندما سلك السكان الأصليون من شعب الماوري المسار نفسه تقريبا، ميممين شطر الساحل الجنوبي الشرقي المعروف الآن باسم فيوردلاند قبل وصول الكابتن كوك في عام 1769 بزمن طويل. لقد اجتاز شعب الماوري هذا الطريق بحثا عن الحجر الأخضر حجر كريم الذي كانوا يستخدمونه في صناعة الأدوات والأسلحة.
- لا يزال المسار وعرا؛ فليس فيه ملاءات فاخرة ولا مطاعم مرصعة بنجوم ميشلين على طول الطريق مع أن معظم المتنزهين قادرون على تحمل نفقات هذه الرفاهية على ما يبدو. كان معنا متقاعدون عملوا في أعمال مكتبية، ومحاسبون، ومحامون، وغيرهم أصحاب مهن أخرى كثيرة اختاروا كلهم قضاء يوم في ملابس تقطر ماء، واتقاء البرد ليلا بمدفأة على الحطب، وبتناول أطعمة جاهزة ابتاعوها من مخزن المخيم. وبعد هذا تخلد أبدانهم المتعبة إلى الراحة في مهاجع نوم جماعية شديدة الرطوبة.
- يهتف طبيب أسنان فرنسي في الأربعينات من عمره يدعى ميشيل عند وصوله إلى الكوخ الأول: إنه من مستوى 5 نجوم! لم يجانب الرجل الصواب كثيرا، لأن أكثر الأماكن الأخرى في العالم التي تكلف المقدار نفسه من المال في الليلة، أي نحو 65 دولارا، أماكن بغيضة، بل غير آمنة أيضا على الأرجح.
- قد يكون مسار ميلفورد محفوفا بالمخاطر أيضا. تقول كريستين أوفيسر، مديرة البرامج في مكتب البيئة، وهي التي تدير مسار ميلفورد في تي أناو التي تقع على مسافة ساعتين بالحافلة من كوينستون: قد تحدث فيضانات، وتهطل ثلوج، وتهب رياح عاتية، كما تبقى مخاطر الانهيارات والانزلاقات، وسقوط الصخور ماثلة في أي وقت من أوقات العام بفعل الطبيعة المتحركة لهذه البيئة. كما يتعرض مسار ميلفورد إلى ضرر كبير كل عام.
- لقد رأينا هذا بأم العين منذ يومنا الأول هنا. إن الممر الضيق المفروش بالحصى مصان بصورة مثالية، باستثناء الأماكن التي هوت فيها أشجار، كما تعترض سبيلك بقايا الأخشاب على طول المسار. اجتاحت مياه النهر أجزاء من الدرب فجعلتها بلورية لامعة وادعة في يوم مسيرنا إلى جانبها. تضم أجزاء أخرى من المسار أسهم دلالة على ارتفاع الصدر ترشد المشاة إلى الطريق الذي يجب أن يسلكوه إذا باغتتهم فيضانات تصل إلى مستوى الخصر؛ وكثيرا ما يحدث هذا فعلا. تعتبر هذه المنطقة من أكثر أصقاع الأرض مطرا إذ يبلغ معدل الهطل فيها 22 قدما.
- إن ممر ميلفورد يستضيف حيوانات مفترسة مزعجة. وفيه أيضا ذباب الرمل، شديد النهم للدماء، وهو يطير في جماعات دائما. وفي الممر أيضا مخلوق تواق إلى الانتقام! إنه الكيا، ببغاء نيوزلندا الأصلي بمنقاره المدبب. فإذا أحببت أن ترى تخريبا من غير أن تدفع شيئا ليس عليك إلا أن تتقمص شخصية مراهق من الضواحي في ليلة الأذى المتعمد، ثم تترك حذاءك خارج الكوخ ليلا، وسيأتي ببغاء الكيا لينتزع النعال بكل سرور.
- سلكنا في الصباح التالي ممرا يتلوى عبر غابة زان كثيفة مرتفعة بعض الارتفاع، ثم أصبح مسارنا أعلى من قمم الأشجار بعد مسيرة 7 أو 8 ساعات. كنا نقصد قمة ماكينون باس التي يناهز ارتفاعها 3.500 قدم، لننحدر من الجانب الآخر. إنها منطقة معرضة للانهيارات، وقد اعتبرها حراس دائرة البيئة آمنة قبل دقائق فقط من انطلاقنا من الكوخ صباحا. لكننا عجبنا كيف خدعتهم فور اجتيازنا أول خطواتنا فيها.
- خلال 3 ساعات من تسلق التعرجات الصخرية وصولا إلى القمة كنا نسير الهوينى عبر مناطق عدة منحدرة يكسوها ثلج وجليد يصلان إلى الركبة. تشعر حينها بوطأة 15 كيلوغراما تحملها متأرجحة على ظهرك، وتسعى جاهدا إلى حفظ توازنك تحت ثقلها. ثم كنا نضطر إلى الانعطاف حول أحد المنعرجات كي نكمل طريقنا على منحدر أملس من نباتات خضراء، رحنا نتشبث بها علها تساعدنا على المشي. كنا نصلي، كي نجد موقعا صلبا تحت أقدامنا.
- عندما ينقشع الرذاذ الكثيف عند أعلى قمة في جبل ماكينون، وهي أعلى نقطة في مسار ميلفورد من كل النواحي، يمكن التمتع بأروع مناظر وديان آرثر وكلينتون السحيقة المحدبة المنبسطة على الجانبين. لقد دفعت زلازل عنيفة حدثت خلال ملايين السنين تلك الذرى الرمادية المدببة إلى الأعلى. لكن، أسفا، فالمكافأة التي حصلنا عليها لقاء جهدنا المضني في ارتقاء القمة كانت ضبابا كثيفا، وبردا قارصا، وريحا رطبة.
- ليس هذا بالوقت المناسب لأن يتوه المرء في مجاهل ميلفورد، لاعنا آلهة الطقس! في أعلى القمة على مسافة أمتار قليلة من نصب تذكاري صخري للمستكشف كوينتون مكينون الذي عاش في القرن الـ19، ثمة منحدر رأسي يهوي نحو 2.600 قدم. وهو لا يكاد يرى في هذه اللحظة. فإذا قفزت من الحافة، فإنك لن تبلغ قاعه قبل 12 ثانية.
- ما من سياج للحماية هنا؛ ولهذا سبب مقنع: فالناس يتكئون على الحواجز عادة؛ وعندما لا يجدونها يدفعهم هذا إلى الابتعاد مسافة كافية عن حافة الهاوية. على طريق النزول من القمة، كان علينا أن نسلك منعطفا هابطا شديد الانحدار على طول ممر صخري متعرج ملؤه الحجارة والجلاميد. لقد أصبح هذا الممر الآن أكثر شبها بشلال منهمر يمتحن ركبتيك وكاحليك امتحانا عسيرا في كل خطوة تخطوها. إن من الفطنة أن يجلب المرء عصا السير معه.
- ومن الفطنة أيضا أن يتلقى تدريبا على اللياقة البدنية قبل مجيئه. وتخبرنا ميريديث، التي تعمل محاسبة عامة مجازة، وهي من بريسبين، وفي الستينيات من عمرها، أنها كانت تحمل حقيبة الظهر مملوءة أثناء سيرها على جهاز المشي في نادي اللياقة البدنية.
- مبللين بالماء من الرأس إلى أخمص القدم، شاعرين بالإنهاك والتعب، تخطينا منعطف المسار الذي يستغرق ساعة من المسير قبل الوصول إلى شلالات سوثرلاند التي هي من أعلى الشلالات في نيوزلندا. لم يبق في خزانات وقود أجسادنا إلا ما يكفينا يوما رابعا، أخيرا تبين أن طريقنا فيه منبسط بعض الانبساط على الرغم من تطاوله أكثر من سابقيه إذ بلغ 11 ميلا.
- كان في انتظارنا عند نهاية المسار استقبال يشبه استقبال الأبطال، إذ حيتنا لافتة يزينها حذاء بال متروك تهنئة لنا على إكمال المشوار. كانت النهاية حلوة مرة. راح الجميع يضحكون ويروون ذكريات الرحلة الأكثر تحديا، لكن أحدا منهم ما كان متحمسا لمتابعة السير بعد هذا.
- ثمة قارب يقلنا من ميلفورد ساوند ليأخذنا إلى البلدة التي هي واحدة من أشهر الوجهات السياحية في نيوزلندا، ومن ثم يذهب بنا إلى محطة القوارب. وهناك، عندما تقع أنظارنا على مجموعة سائحين مرتدين ملابس نظيفة أنيقة متوجهين إلى نزهة مدتها يوم واحد هابطين سريعا من قواربهم وحافلاتهم، ندرك أن شيئا مميزا في هذا المكان قد فاتهم. ثم نحس أن هذا الشعور نفسه يخامرهم عندما ينظرون إلينا بهيئاتنا التي تشبه هيئات متشردين مزهوين.
- وبغية ممارسة مزيد من التباهي مرة أخيرة أعرضنا عن رحلة ليلية حول ميلفورد ساوند وركبنا طائرة شراعية إلى كوينستاون المشمسة 275 دولارا التي هي النسخة النيوزلندية من مدينة فيل. تقلع بنا الطائرة بسرعة الصوت، ثم تحلق فوق الشطر الأكبر من مسار ميلفورد فنرى استعراضا وجيزا للرحلة التي امتدت 4 أيام، ونشهد رونق شلالات سوثرلاند، ثم نحوم فوق ماكينون باس التي لا تزال مكسوة بالغيوم، ولا تزال تبدو غير مضيافة كعهدها دائما.
- بعد 40 دقيقة، نحط في كوينستاون لننال حماما ساخنا، ووجبة حقيقية، وفراشا وثيرا رحبا في فندق بالغ اللطافة. لم نشعر قبل اليوم بحلاوة هذه الرفاهية البسيطة!
المصدر http://bit.ly/1t5FP4d